وداعا سي نبيل.. هي كذلك.. " الإذاعة أمانة.." لست من خاصّة أصدقاء الراحل نبيل بن زكري لكن لا يمكن لي ألا أضمّ صوتي إلى الأصوات الكثيرة التي تحدثت عنه ولا تزال لتشيد بما كان عليه الرجل من طيبة ولطف وحسن تعامل مع الناس، فقد وقفت على ذلك بنفسي عندما كان يتجشم أعباء مصلحة الدراما بالإذاعة التونسية وكنت أتحمل قدرا من المسؤولية في إحدى الإذاعات الجهوية، ثمّ تبيّنت خصاله الإنسانية العالية عندما عملت لسنوات بالمصالح المركزية للإذاعة التونسية، فقد كان يحدث أن نلتقي في هذا الممر أو ذلك أو هذا البهو أو ذلك فيغمرني في كل مرة بفائض من المحبة والمودة، ممّا يتجاوز الزمالة شيئا قليلا. وممّا لا شك فيه أن طيبته ولطفه وتلقائيته لمسها، فضلا عن زملائه، مستمعوه ومستمعاته وما أكثرهم في سائر جهات الجمهورية وخارجها ومنهم من هو متعلق به تعلّقا شديدا، لا يفوّت برامجه حريص على المشاركة فيها وكأنه يرى فيه بشكل خاص استمرارا للطابع المميز الذي عرفت به الإذاعة الوطنية عبر تاريخها الحافل بأصوات المذيعين والمذيعات والمنشطين والمنشطات والصحفيين والصحفيات والمبدعين الرائعين والمفكرين الأفذاذ. حبا الله نبيل بن زكري بصوت لا تملّ من سماعه لحلاوته ووضوحه وقد طوّر لغة في الخطاب الإذاعي سهلة ممتنعة، تجري على لسانه بشكل سلس بعيد عن التكلّف والتعقيد، فيفهم عنه المثقف والطالب والعامل والفلاح وربة البيت، ساكن الريف وساكن المدينة وليس من الغريب أن يشبّه في ذلك بالبلبل، فمن المذيعين من يشدو ومنهم من يرسم ويصوّر بالكلمة والصوت وأزعم أن نبيل بن زكري أحدهم. أمّا فيما يتصل بمضامين البرامج التي أنتجها مثل " شيشخان" و"طريق السلامة" أو كان من بين منشطيها مثل " يوم سعيد" و"موجة صيف" وغير ذلك كثير، فلعلّ ما يميزها هو تلك البصمة الاجتماعية التلقائية والقدرة الفائقة على التأليف بين وظائف الإخبار والتثقيف والترفيه في أسلوب جاذب، ممتع مفيد، أمّا ميزتها الكبرى فروح تونسية صميمة، قد لا يمتلكها إلا من كان حاضرا في الجغرافية التونسية بخصوصياتها الطبيعية والثقافية حضور اطّلاع وانتماء، هو أصيل المطوية من جهة أبيه، المنفتح على باجة وربوع الشمال الغربي من جهة أمّه، هو الذي تربّى في ربط باب سويقة وعبّ التراث عبّا منذ نعومة أظافره، وكم هو من المكرمات أن يوارى التراب على إحدى ربى أريانة الفيحاء بين شجر الصفصاف وأسراب الحمام. نبيل بن زكري محترف إذاعة، يمتلك المصدح ويملأ الأستوديو، أخذ الحرفة عن الكبار، إذاعيين وتقنيين ولا شكّ أنه خبير عليم بأسرار خزينة الأغاني وكنوزها لذا تراه موفقا في اختياراته الموسيقية التونسية والشرقية، وتراه من طينة أولئك الإذاعيين القلائل القادرين على تحويل خام الذهب إلى مصوغ مشكّل. هي مسيرة أربعة عقود كاملة، انتقل فيها العمل الإذاعي من عصر رسائل المستمعين والاسطوانات المغناطيسية إلى إذاعة الميديا الاجتماعية والبودكاست ، وانتقلت فيها الخطوط التحريرية من التوجيهات الواضحة الصارمة أحيانا إلى قدر غير قليل من الحرّية، ومع ذلك نأى نبيل بن زكري وعدد من زملائه في إذاعات المرفق العام مركزيا وجهويا عن استسهال المصدح والوقوع في الخليط اللغوي والبحث عن البوز والإثارة أو ركوب موجة الثورجية الخادعة، تلك التي تجعلك أحيانا تفقد بوصلة الوطن، فالإذاعة أمانة "، كما ورد على لسانه في حصة تلفزيونية على القناة الوطنية ، دعي إليها يوم 13 فيفري الماضي، احتفالا باليوم العالمي للإذاعة . عانى نبيل كغيره ممّا عاناه الإعلام العمومي إثر منعطف 2011 وهو يستوعب المتغيّرات ليجدّد رسالته ويثبّت مكانته كمرفق لا غنى عنه لبناء المواطنة الحق ورعاية الثقافة الوطنية وحفظ الذاكرة الجماعية، وما من شك في أن ما خصّ به بعد ظهر أمس من تأبين وتكريم بمقر الإذاعة التونسية، أمّ البدايات، بيته، وسط حشد مهيب من زملائه ومستمعيه، يقيم الدليل على مكانته إنسانا رائعا وإذاعيا خالصا ويفضي إلى جدارته بالوفاء والاعتراف. رحمه الله وطيب ثراه. زهير بن حمد 8 جوان 2023





